
في لحظات التحول الكبرى، لا تسقط الدول دفعة واحدة، بل تبدأ أولًا بتشويه المعنى، ثم بتزييف الصوت، وأخيرًا بتجريم السؤال. وحين تبلغ السلطة مرحلة تُقوِّل فيها الشعوب ما لم تقله، وتحوّل الصحافة من سلطة رقابية إلى مجرد صدى رسمي، نكون قد دخلنا المنطقة الرمادية بين الدولة والمؤسسة القمعية.
لم تعد المسألة تتعلق بحرية رأي أو اختلاف سياسي، بل أصبحت معركة على الحقيقة نفسها. فحين تنطق الحكومات باسم الناس دون تفويض، وتلبس مواقفها للشارع قسرًا، فإنها لا تمارس الحكم، بل تمارس الوصاية. وحين يُطلب من الصحافة أن “تُجَوِّر” الواقع، أي أن تُزيّنه أو تحرّفه أو تصمت عنه، فإنها تُجرَّد من جوهرها وتتحول إلى أداة.
الصحافة، في معناها الأصيل، ليست ملحقًا لوزارة، ولا ناطقًا باسم سلطة، بل ضميرًا يقظًا، ووظيفة وجودها أن تُزعج، لا أن تُرضي، وأن تُسائل، لا أن تُبرّر. لكن حين تُفرَغ من هذا الدور، يصبح الفراغ أخطر من الكذب، لأن الصمت الممنهج هو أعلى درجات التضليل.
إن أخطر ما تواجهه المجتمعات اليوم ليس القمع المباشر، بل تطبيع القمع، حين يُقدَّم على أنه “حفاظ على الاستقرار”، ويُسوَّق على أنه “حماية للمصلحة العامة”، وتُختزل إرادة الشعوب في بيانات جاهزة لا تشبه نبض الشارع ولا تعكس همومه.
والتاريخ، بلا استثناء، علّمنا أن الدول التي تخاف من الصحافة، وتُقوِّل شعوبها، وتُضيّق على السؤال، لا تحمي نفسها، بل تُعجِّل بتآكل شرعيتها. لأن الشرعية لا تُستمد من الصمت، بل من الثقة، ولا تُبنى بالتخويف، بل بالشفافية.
إننا اليوم أمام اختبار حقيقي:
إما أن نعيد للصحافة دورها الطبيعي كسلطة رابعة،
أو نُسلّم المجال العام لخطاب واحد، وصوت واحد، ورواية واحدة…
وحينها، لن يكون الخطر في ما يُقال، بل في كل ما مُنع أن يُقال.
