بقلم عبدالرحيم بخاش

ضحايا الواقع: مجتمع يولّد المجرمين من الأبرياء
في زوايا المدينة المزدحمة، تنهض الأرواح بلا أمل، تتنفس في أحياء تئن من صمتها الثقيل، وتبحث عن لقمة عيش لم تُمنح لهم. كل صباح يبدأ بصراع جديد، وكل مساء ينتهي بخوف وكابوس لم ينتهِ بعد
طفل صغير لم يتجاوز العاشرة، كان يحلم بالكتب واللعب، أصبح يجلس على الرصيف ليبيع المناديل، يختبئ خلف الظلال حتى تمر العيون ولا يراه أحد. الأرض هي فراشه، والظلام مأواه، والنهار وقت نومه كي لا يُلاحظه أحد، والليل هو وقت اليقظة للبقاء على قيد الحياة
فتاة صغيرة كانت تحمل أحلام الطفولة في حقيبتها، أصبحت تجوب الكاباري وزوايا المدينة بحثاً عن من يلتقطها، كأنها فريسة. المخدرات تهدئها قليلاً، لكنها تُبقيها في دائرة ضياع مستمرة. لم تولد مجرمة، لكنها أصبحت كذلك نتيجة بيئة لم توفر لها حياة كريمة، ومجتمع ترك الأطفال بلا حماية، وفساد ممتد جعل الحياة جحيماً لكل ضعيف.
شاب آخر، كان طالب علم وطموح، يجد نفسه مضطراً للانخراط في حياة لا يرضاها قلبه. كل محاولة للعيش بكرامة تصطدم بجدران الفساد، كل فشل يحيله إلى شخص يُنظر إليه لاحقاً كجريمة. القانون يلاحقه، المجتمع يراقبه، لكنه لم يولد مجرماً، بل هو ضحية واقع قاسٍ.
أمٌّ تكافح لتغطية حاجات أسرتها، ترى أطفالها يكبرون بسرعة، يكتسبون طرق التكيف مع الشارع، مع الظل، ومع صمت العالم. كل يوم يمثل درساً جديداً في الحذر والخوف، وكل لحظة تمر تجعل الأمل أكثر بعداً.
في سوق المدينة، بائعو الخضر والفواكه يحاولون الصمود، لكنهم يراقبون من حولهم الذين فقدوا كل شيء. هؤلاء الأطفال والشباب أصبحوا جزءاً من دائرة ضياع لا يرحمها القانون ولا المجتمع، كلهم مجبرون على اتخاذ خيارات صعبة للبقاء على قيد الحياة
شاب آخر يسير ساعات بحثاً عن عمل، كل أبواب المدينة مغلقة أمامه. كل يوم يمضي يزيد شعوره باليأس، ومع كل فشل، يقترب أكثر من حياة يُنظر إليها لاحقاً كجريمة. لم يولد مجرماً، لكنه أصبح ضحية حكومة لم توفر له فرصة العيش بكرامة.
فتاة أخرى، ابنة حي فقير، فقدت والدها في وقت مبكر، وأمها لم تعد قادرة على تغطية احتياجاتها. الشارع أصبح بيتها، المخدرات مسكنها المؤقت، وأي ظلال توفر لها شعوراً بالأمان المؤقت هي ملاذها. هي فريسة لعالم لا يرحم، لم تولد مجرمة، لكنها أصبحت كذلك بسبب الظروف المحيطة
رجل مسن يجلس على باب متجر صغير، كل يوم يراقب الشباب الذين يسيرون في الشوارع، يبيعون ويعملون ويبحثون عن فرص للبقاء، ويرى آثار الضياع في وجوههم. كان يحلم بمجتمع يحمي الأطفال، لكنه لم يجد سوى الصمت.
طفل آخر يعيش في حي منكوب بالفقر، يحاول التعلم من الكتب التي جمعها من المكتبة العامة التي أغلقت أبوابها. كل يوم يواجه تسولاً، ويواجه خيبة أمل، ويبدأ يفهم أن الحياة لا تمنحه إلا القليل من الفرص
شاب آخر حاول العمل في المصنع، لكن الأجور لم تكفِ، وظل بلا عمل، يتحرك بين الشوارع بحثاً عن وسيلة لكسب رزق يومي. كل تجربة فاشلة تجعله أقرب إلى اتخاذ خيارات يرفضها قلبه، لكنه مضطر لها
كل هؤلاء، وكل هؤلاء الآخرين الذين لا تُعدهم المدينة، يعيشون على هامش الحياة، بين الفقر والفساد، بين القوانين الظالمة والمجتمع القاسي. الضحايا يولدون من براءة الأطفال، يتحولون تدريجياً إلى مجرمين في نظر القانون، بينما يبقون أبرياء أمام ضميرهم والله
الشارع أصبح مدرسة، والليل أصبح وقت التعلم الصعب للبقاء، والمخدرات مسكن مؤقت، والأرض فراشٌ بلا دفء. كل شخص في هذا النسيج يحاول البقاء ضمن حدود الكرامة، لكن هذه الحدود تتلاشى أمام قسوة الواقع.
هذه الشهادات اليومية ليست دعوة للغضب أو للتحريض، بل هي محاولة لرصد الواقع كما هو: مأساة جماعية لمجتمع ترك الناس بين الفقر والفساد، بين القوانين الظالمة وبين ظلم المجتمع، وبين الحاجة الماسة وبين غياب الرحمة. لم يولد هؤلاء مجرمين، لكنهم أصبحوا كذلك نتيجة حكومة لم توفر لهم طريقاً آمناً، ومجتمع لم يرحم ضعفهم
في نهاية المطاف، يبقى الحزن، يبقى الصمت، ويبقى الأمل الصغير الذي يختبئ في كل قلب يبحث عن حياة أفضل، يبقى ضمير الإنسان، الذي يعرف أن براءته لا يمكن للقوانين الفاسدة ولا للمجتمع القاسي أن ينتزعها، ويبقى الله هو الحكم الذي يرى الحقيقة، حيث لا يضيع براءة أحد، مهما كانت الحياة مليئة بالظلم والقسوة
