في رثاء زمنٍ كنّا فيه بشرًا

بقلم عبدالرحيم بخاش


أنّى التفتُّ، لم أرَنا…
أنّى التفتُّ، لم أرَنا.
كأنّ الزمان قد طوَى وجوهنا، وذرّاها في مهبّ الحداثة الباردة،
كأنّ « نحن » التي كنّا، ما عادت تسكن فينا، ولا تسكن بيننا.
أين نحن، حين كان الموتُ ضيفًا مهيبًا تُطفَأ له المصابيح، وتخرسُ الضحكات؟
كان الفقد إذا ألمّ بواحد، نزل بسكينةٍ على الجميع،
كان الجار يبكي وكأن الميت من صُلبه،
وكانت البيوت ترتدي الحزن كما يرتدي الشجر صمت الشتاء.
اليوم… يموت أحدنا، فنكتفي بتعزيةٍ باردة، تُرسَل في غفلة، ويُطوى الحديث.
أين نحن؟
كنا نطبخ بأيدينا، لا لأنّ الأكل في غير ذلك حرام،
بل لأنّ في الطهو دفئًا يُشبه الأمومة،
ولأنّ القدر كان يغلي بأحاديث الأمّهات، ويعبق بذكريات الجدّات،
فما كانت الموائد تَشبَع من الطعام، بل كانت تَشبع من الحضور.
أين نحن، يوم كانت ابنة الجار أختًا، لا تُرى بعين الشهوة،
ولا يُظنّ بها شرّ،
كانت تسير بيننا كما تسير النسمة بين أوراق الشجر،
فنحن نعرفها، ونعرف أباها، وتعرف أمّهاتُنا جدّتها.
اليوم… سقطت الجدران بين العيون، وارتفعت بين القلوب.
أين نحن؟
كنا نقبّل يدَ الشيخ إذا دخل،
لا من باب المجاملة، بل لأنّ الكِبَر في السنين كان تاجًا،
وكان الوقار مقامًا لا يُشترى،
أمّا الآن، فالشيخوخة تُخفى، والحكمة تُهزأ،
ولم تعد التجاعيد توقيع المجد، بل صارت تُخفى بالمُستحضرات.
أين تلك الليالي التي كنا ننام فيها سويًا،
نحنُ الصغار، نحمل الأحلام نفسها، ونخاف من الظلمة نفسها،
كنا نتحلّق حول قصةٍ واحدة، ونغفو كأنّنا خيط واحد من قماش الطمأنينة.
أما الآن… فقد تفرّقت الأرواح وإن اجتمعت الأجساد،
وصار كلٌّ منا نائمًا في متاهة نفسه، لا يسمع أنين الآخر.
أين ذهبت « نحن »؟
أين ذلك الشعور الجمعي الذي كان يُؤنس الوحدة،
ويحمل الضعف عن الضعفاء، ويحنو على الفقير قبل أن يمدّ يده؟
صرنا نعيش في عالمٍ تُدار فيه العلاقات بنظام التشغيل،
وتُقاس فيه القلوب بعدد المتابعين،
وتُنسج فيه المحبة على خيوط الكذب الناعم، والتمثيل المصقول.
يا ويحنا، لقد هجرنا أنفسنا ونحن نظنّ أننا نواكب الحياة،
لكننا تركنا إنسانيتنا في منتصف الطريق،
وعُدنا إلى بيوتنا بلا أرواح، بلا ذاكرة، بلا « نحن ».
فيا أيها القارئ العاقل،
لا تسأل « أين نحن؟ » بل اسأل: كيف نعود؟
فالعبرة ليست في البكاء على أطلالنا،
بل في أن نُوقظ ما تبقّى من دفءٍ تحت رماد هذا العصر الجليدي..
أين نحن؟
كأنّ الزمان قد لفّنا بردائه، ثمّ تركنا على رصيف العُزلة لا نُحسن العودة إلى أنفسنا،
فصرنا غرباء في بيوتنا، غُرباء عن أرواحنا، نحمل أسماءنا كأنها أقنعة، ونمضي في دروب الحياة وقد خبت فينا « نحن ».
أين نحن، يوم كان للموت هيبة، وللحزن مكان؟
حين كانت الجنازة تجمع القرية بأسرها،
يخفت فيها الصوت، وتنسحب الضحكات إلى داخل القلوب احترامًا لرحيل إنسان.
كانت العيون تبكي دون خجل،
وكانت الأرواح تتواسى دون كلمات،
وكانت اليد تمتدّ بالعزاء قبل أن تُسأل.
أين نحن من زمنٍ كانت فيه البيوت مطاعمَ القلوب؟
حين كانت الأمهات يُشعلن النار في المواقد لا في القلوب،
وحين كان « الطعام » رسالة مودة لا مظهر ترف،
كانت الروائح تعبُر من بيتٍ إلى آخر كأنها رسائل حنان،
وكنا نأكل من أطباق بعضنا البعض دون خوف،
لأن الطمأنينة كانت هي الملحُ الحقيقي في المائدة.
أين نحن من ذلك الزمن الذي كانت فيه ابنة الجار أختًا؟
كنا نراها كما نرى شقيقتنا،
لا ريبة، لا نظرات مسمومة، لا تفسيرات مُلتوية.
كنا نعرفها، وتعرفنا، وتعرفنا جدّاتها.
اليوم… صار الجار لا يعرف اسم جاره، وإن عرفه، لم يأمنه.
كنا نقبّل يد المسنّ، ونحني رؤوسنا إذا تحدّث،
لا لأننا ضُعفاء، بل لأننا أقوياء بأخلاقنا.
اليوم، تُهان الشيبة، وتُستبدل الحكمة برأي عابر على منصّة،
صار الوقار تهمة، والوقاحة موهبة،
كأن الدنيا انقلبت، أو كأننا نحن الذين انقلبنا عليها.
كنا ننام مجتمعين،
نضع رؤوسنا على الأرض، وقلوبنا على بعضها،
لا نعرف الخصام، وإن عرفناه، ذاب مع أول ضحكة.
كنا نعيش بنية سليمة، بلا حسابات، بلا نوايا مسمومة،
أما اليوم… ننام وحولنا جدرانٌ من صمت،
وفي داخلنا أسوار من خوف.
أين نحن؟
وأين ذهبت تلك الـ »نحن »؟
صرنا نقيس الصداقة بالرسائل، والمشاعر بالإعجابات،
صرنا نعيش في زمن السرعة… ولكن بلا وجهة،
زمن التواصل… ولكن بلا تواصل،
زمن الخيارات… ولكن بلا اختيار حقيقي للخير والجمال.
إننا لا نرثي زمنًا مضى،
بل نرثي أنفسنا التي تبدّدت فيه،
نرثي القلب الذي تكلّس، والضمير الذي خمد، والروح التي نسيت كيف تُحِبّ بلا مقابل.
فيا سائلي:
أين نحن؟
نحن حيث خلعنا ثياب المروءة، وارتدينا أقنعة الحداثة الزائفة،
نحن حيث اخترنا الضجيج بدل السكينة،
والصورة بدل الحقيقة،
والأنا بدل الـ »نحن ».
في رثاء زمنٍ كنّا فيه بشرًا