وقار الشيب وأرَشيف الوجع الجميل

بقلم عبدالرحيم بخاش


وقار الشيب وأرَشيف الوجع الجميل
الشيبُ ما كان يومًا نذيرَ ضعف، ولا علامةً على انحناء الظهر أو انكسار الروح، بل هو وشاحُ وقارٍ تنسجه الأيام بخيوط من الحكمة والصبر. تلك الخصلات البيضاء التي تلوّن رؤوسنا ليست عارًا نخفيه، بل شهادة حياة، توقيع الزمن على جبين التجربة، صفحات كتبها العمر بأحباره العذبة والمريرة، فهل يُخجلنا كتاب العمر وقد كُتب بأقلام الألم والرجاء؟
أما التجاعيد، فليست خدوشًا على مرآة الجمال، بل خريطة أرشيفٍ إنسانيّ، رسمته سنوات من الضحك المكبوت، والبكاء المكتوم، والحنين الذي لم يهدأ. هي تجاعيد الصبر الذي تكدّس في النفوس، والعبر التي ارتسمت على الوجوه، وشواهد التعب والسند والخذلان والاحتراق، وكل ما لم نستطع أن نقوله فوشمته ملامحنا نيابةً عنا.
الشيب ليس نهاية، بل مرحلة تروي أن المرء مضى، ومرّ، وعاش، وجاهد، وقدّم، وأنه بلغ شاطئ التجربة بعد أن عبر بحار الانتظار والخسارات والانتصارات. أن يتقدّم الجسد بالعمر أمرٌ لا مفرّ منه، لكن أن تشيخ الروح؟ فذاك قرارٌ نصنعه نحن بأيدينا، حين نُسلّم أنفسنا لليأس، ونخون ذاك الطفل الذي ما زال في أعماقنا يركض.
ليس الزمن هو ما يُنهكنا… بل ذاك الحمل الثقيل الذي نحمله داخلنا ولا يراه أحد. خيباتنا التي لم نروها، ورفاقٌ خانوا دفء الثقة، فتركوا على القلب ندوبًا لا تُشفى. أحلامٌ وُلدت باكرة ثم ماتت خنقًا في مهدها، لم تشتكِ، لم تصرخ، لكنها رحلت بصمت، وتركت فراغًا لا يُملأ.
العمرُ لا يُقاس بالسنين وحدها، بل بالمعارك التي خضناها، والقلوب التي رمّمناها، والليالِي التي قضيناها نلملم شظايانا بعد كل انكسار. فالإنسان لا يشيخ حين يُطفئ الشموع على كعكة الميلاد، بل حين يطفئ الشغف في قلبه، ويُسكت صوته الداخلي، ويركن إلى ظلال العجز وهو ما زال قادرًا على الوقوف.
فيا أيها الشاحبُ شعرًا… المجعّدُ وجهًا… المليءُ حياةً، لا تخجل من شيبك، بل افتخر به، وامنح تجاعيدك اسمًا لكل لحظة انتظرتَ فيها حلمًا، أو خبأتَ فيها وجعًا. أنت لست مرهقًا من عمرك… بل مما تحمله من أوجاع لم تجد لها حضنًا.
وما الحياةُ إلا متحفُ أرواحٍ… وبعضنا تحوّل إلى لوحةٍ نادرة، تحمل الكثير من الدموع… والكثير من النور.